fbpx

“يامال الشام”.. حين رسمت سهام ترجمان تفاصيل دمشق في كتاب

0 87

لا يسعني تخيّل لحظات سهام ترجمان الأخيرة، إلا وهي تسرّح شعرها البني وتعطّر نفسها “بالمازهر” الشاميّ الذي تغنت به وتمنّت أن يبقى تراثاً ينقله الدمشقيون لأحفادهم، بعد أن جرعت الرشفة الأخيرة من ماء “الفيجة”، ثم مضت بكامل أناقتها على “جهاز أمها الصدف” في بيتها العربي الدمشقي….

 

ابنة الشام البارّة

 

في شهر كانون الأول/ ديسمبر عام ١٩٣٢، ولدت الأديبة السورية سهام ترجمان في حي العمارة في دمشق، وتلك كانت ولادتها الأولى؛ إذ تقول ترجمان “ولدتني أمي عزيزة أول مرة في حي العمارة في كانون أول ١٩٣٢وكانت الدنيا تلج، وولدتني أمي الشام ثاني مرة في حي السبكي في ٥ حزيران ١٩٦٧ وكانت الدنيا حرب!”

وبين شتاء ١٩٣٢ وصيف ١٩٦٧، كانت الشابة الدمشقية تسير نحو قدرها كروائية سكنت الشام وسكنتها، ليأتي نتاج هذا الهوى عام ١٩٦٩ على شكل كتاب تحت عنوان “يا مال الشام”، جمعت فيه الكاتبة كل ما يخص مدينتها المعشوقة من عادات وتقاليد وأمثال شعبية، من خلال سرد سيّر من طفولتها وشبابها وقصصِ عايشتها وسمعتها، فتأرجح الكتاب بين السيرة الذاتية والتوثيق، وإن كان من الإجحاف الانشغال بتصنيف نوع الكتاب وإغفال الاستمتاع بتفاصيله الدافئة.

 

الحكايات الدمشقية

 

” لا أزال أتساءل أيهما أجمل الشام أم كتابك عن الشام” بهذه العبارة يفتتح الأديب والدبلوماسي السوري صباح قباني رسالة إلى سهام ترجمان يُعبّر فيها عن إعجابه بكتابها، وقد اعتزت سهام بهذه الرسالة كثيراً حتى وضعتها بأولى صفحات النسخة الثانية من الكتاب، ويُكمل قباني ” في كتابك رأيت نفسي، رأيت طفولتي وصباي الأول في “مأدنة الشحم والبزورية ومعاوية”، في كتابك سمعت صوت أبي، وعبارات أمي، وتصايح أخوتي، ونداءات أهل الحارة، وشممت روائح الياسمين والمضعف والشب الظريف التي كانت تملأ أرض ديارنا”، ” لابد أنك تصورت كيف سيتساءل المتساءلون المتأدبون(حاملة فلسفة وتكتب بالعامية!؟)”، حيث أن إجازة الفلسفة التي حملتها ترجمان، لم تمنعها في كثير من الأحيان أن تورد حوارات ومقاطع باللهجة العامية الشامية رغم الانتقادات التي تعرضت لها من الأوساط المثقفة.

 

غير آبهة بهذه الانتقادات تذكر سهام باللهجة العامية قصصاً محببة تبدأ “بحمام السوق” المعهود يوم الخميس وما يجري فيه أحياناً من شجارات لطيفة بين النسوة، وتمر بالأغنيات الشعبية التي ترددها بنات الجيران، وتصل إلى أجواء شهر رمضان والأعياد، ولا تنتهي عند وصف العرس الدمشقي وتفاصيله المبهجة.

 

ولا تغفل الكاتبة عن ذكر السهرات والزيارات و”السيارين” في الغوطة وبساتين دمر وعلى ضفاف نهر بردى، وهي مناطق اعتاد الدمشقيون زيارتها يوم الجمعة غالباً للترويح عن أنفسهم ويسمون هذه الرحلة “بالسيران”، وتذكر ترجمان أن أباها كسر التقاليد وعوّد الأسرة على أن تكون هذه اللقاءات العائلية تجمع النساء والرجال معاً، ” وممنوع بأمر أبي جلسة النساء وحدهن والرجال وحدهم بين الأقرباء، الاستقبال استقبال النسوان الشهري ممنوع بين النساء والمقهى ممنوع بين الرجال، وكل منهم كان يقتنع ويطيع وينفذ ويسمح لزوجته أن تظهر سافرة في السهرة، أما في الطريق فلا بد أن ترخي على وجهها المنديل الاسود طاقين.”، وهنا تعمر السيارين والسهرات بكل مالذ وطاب من مآكل خفيفة لتسلية الحاضرين، إلى جانب الألعاب العائلية على أنغام العود.

 

العاشقة “الحلوة”

 

في ذلك الجو الأسري نشأت سهام وكبرت على صوت أبيها وهو يناديها بالحلوة، وهو ما ترك أثراً عظيماً في نفسها، فتقول “وهكذا استطاع أبي بتسميته وتدليله لي، قلب مفاهيم الحلاوة في نفسي، فصدقت أني حلوة لذكائي وذاكرتي رغم أني أقل أخوتي وأخواتي حلاوة، وتحول اسمي في أفواه أهل البيت وفي اذني، إلى صورة من صور الحلاوة تجسد في يوم من الأيام بفاكهة من أحلى وأشهى فواكه الشام.”

 

وربما  تلك الثقة التي تشربتها سهام الطفلة من أسرتها كانت عوناً لسهام الشابة في اختيار شريك حياتها النقيب فؤاد محفوظ الذي أحبته فوق الحب حسب وصفها، والذي جعلها تعيش  في فترة حرب النكسة /تموز ١٩٦٧/ خوفان، خوف الفتاة الهائمة في حب وطنها وأسرتها، وخوف الشابة العاشقة على حياة وسلامة شريك حياتها، ورغم ذلك الحب لم تسعفها جرأتها لرواية هذه التفاصيل على لسانها في الكتاب، إنما سردتها على أنها حكاية صديقتها وخطيبها في فصل “يوميات فتاة دمشقية”، وهو ما أشار إليه صباح قباني في رسالته لها، ولم تعلم ترجمان حينها أن مالم تفعله حرب النكسة فعلته حرب الاستنزاف عام ١٩٧٣ إذ استشهد زوجها خلال مشاركته فيها.

 

وهو ما تفخر به ترجمان، ووفاءً لروحها لا بد أن نذكر ما تمنت أن يحكى عنها بعد وفاتها:” وكم ستكون روحي راضية بعد الموت وبعد مئات السنين أن يحكي عني ككاتبة شامية بأنها التقت في عصرها مجموعة من أعظم الأساتذة والأصدقاء والأدباء والشعراء والفنانين والعلماء والموسيقيين والمطربين والموهوبين والأثرياء بالروح والأغنياء بالعطاء والمحبة وحب الشام مثل زوجي الشهيد النقيب فؤاد محفوظ العسكري المثقف ابن قرية دير ماما….”، علها تدندن بفرح اليوم ” يا مال الشام ويلا يامالي… طال المطال ياحلوة تعالي!”

 

اقرأ أيضاً بيتهوفن أعظم عباقرة الموسيقى

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.