fbpx

كيف نظر كافكا للمأزق الوجودي للإنسان من خلال أبطال رواياته

0 57

غريغور سامسا الإنسان المسخ

 

عندما استيقظ غريغور سامسا من النوم ذات صباح، ذُهل حين وجد أطرافه قد تحولت إلى أطراف حشرة، تسلل الرعب إلى نفسه، ليس لأنه لم يعد من جنس البشر بقدر رعبه من كونه لن يستطيع مزاولة عمله كبائع متجول بعد الآن، إضافة إلى ذلك، فخوف جارف سيطر عليه من نظرة عائلته له، كيف سيرونه؟ ماذا سيقولون؟ كيف سيتعاملون معه؟!

غريغور سامسا البائع المتجول الذي يستنشق هواء ذلك المجتمع الرأس مالي المجحف، ذلك الهواء الممتلئ بالفقر، يتلقفه شهيقاً فيدخل الأكسجين والفقر في نفسه، ويخرجه زفيراً فيخرج الأكسجين وحده، ويتركه في حياة بلا حياة ونفس يترسب في أعماقها الفقر والحاجة، نفس تعيش ذل الحرمان في أسوأ صوره، فهو محروم من حريته كإنسان من حقه أن يعيش حياة كريمة، وهذا بسبب الديون التي أثقلت كاهله، ليس هذا ما جاد به قدره وحسب، بل يقضي سامسا حياته أمام الأحكام القاسية من قبل والديه وأخته فهم ينتظرون منه المال والمكانة ولا يشاركونه الحميمية والدفء الأسري كأي أسرة طبيعية.

 

غريغور سامسا هو المثال الأمثل للإنسان المسخ الذي يعيش الاغتراب في مجتمع رأسمالي عبثي لا يرحم، حيث يمسي الإنسان إنساناً مرهقاً، يدور كما يدور الثور في الساقية بلا توقف، بل وعلى آلام السياط التي تجلد ظهره إن تثاقل برهة في مشيه، يعمل ويعمل ويعمل وهو يشعر أنه لم يقدم شيء يذكر رغم ذلك، بل وهو يعلم أنه مازال أمامه الكثير من المهام التي لم تنفذ بعد وهو مُحاسب عليها.

 

عُرف عن كافكا علاقته السيئة بوالده الغاضب على الدوام، لم يرى منه إلا العقاب، التسلط، التهكم الصريح، القسوة، ضرب مبرح وبلا رحمة، ولكم أن تتخيلوا كيف هي النشأة في بيت عماده الأساسي هو أحد ألد أعدائك، كافكا المسكين لم تكن مشكلته مع والده وأسرته فقط، بل مع نظام كامل يبدأ من الأب ثم الأسرة وينتهي برأس الهرم.

 

أن يكون لك أب مثل أب كافكا، أن تكون مواطناً يهودياً يعيش في ألمانيا النازية، أن تكون إنسانا في ظل هذه المنظومة العبثية، وكل هذه الأقدار التي تستزف ما تبقى من روحٍ أرهقتها العائلة وأعياها النظام، فتلك هي المأساة حين تتحول إلى حياة يعيشها شخص.

كل تلك الظروف جعلت من فرانز كافكا أحد أفضل أدباء الألمان في فن القصة القصيرة، وأكثرهم صدقاً وأدقهم وصفاً وأعمقهم غوصاً إلى قرار النفس البشرية ومعاناتها، بل جعلت منه رائداً في الكتابة الكابوسية.

 

جوزيف ك مجرم بلا جريمة

 

بفضل فرانز كافكا، ولشدة تفرده واختلافه في اللون الذي كتب فيه، ظهر مصطلح جديد في فن الأدب ألا وهو مصطلح “الكافكاوية” أو الغرائبية لدى كافكا، يرى كافكا أنه أمام عالم سوداوي عبثي يضع الإنسان في مأزق مستمر، دوامة لا تنتهي من المعاناة، دوامة من القلق والذعر والاغتراب الاجتماعي والشعور بالذنب المستمر والمحاولات عديمة الفائدة لإثبات الذات، كل ذلك يحاصر الإنسان، يخنقه، يفنيه بالتكرار، يقضي عليه باللكمات المتتابعة، حتى يكون الإنسان في النهاية كالخرقة البالية، وهذا ما حدث في روايته تلك.

 

ففي رواية “المحاكمة” لكافكا يستيقظ بطل الرواية (جوزيف ك ) وأمام أعتاب بابه محققان أتيا من المحكمة ليبلغانه بأنه مذنب وعليه أن يمتثل أمام القانون في أسرع وقت، ولكن لا أحد يعلم ما هو الجرم الذي لأجله سيمثل أمام المحكمة وربما يفقد بسببه حريته، أين..ومتى..وكيف؟ وجد جوزيف نفسه وسط مأزق كبير في مشهد سريالي وأخذ على عاتقه المسؤولية لكي يكتشف ماهية الجرم وما العقاب وإذ به يدخل في دوامة عبثية تبدأ بالاستنكار وتنتهي بأن يستسلم لهذا الجرم ويرى أنه مذنب وهو بالأصل لا جرم عليه.

 

  فرانز كافكا الكاتب السوداوي المبدع

 

أمام هذا القبح والجانب السوداوي للعالم الذي رآه وعاشه، لم يستطع كافكا منع نفسه من أن تكون كتاباته مرآة مسلطة على هذا الجانب الذي عِلِقَ بداخله حيناً طويلاً من الدهر، رمى لنا كافكا إبرةً في الطرف الجميل من العالم ألا وهي “إبرة المحاولة والتجربة ” محاولة العيش رغم النبذ الذاتي والخارجي للنفس، محاولة الإنسان لكي يفهم ما يجري حوله، محاولة تجربة المشاعر الإنسانية وتدوينها وترك هذا الإرث لنا، وكأنما رمى تلك الإبرة في كومة قش كبيرة!

 

يكتب فرانز كافكا في رسالة إلى عشيقته ميلينا يقول فيها:

“إنني أرتعش فحسب تحت وطأة الهجوم، أعذب نفسي إلى درجة الجنون. في الحقيقة، حياتي..وجودي، إنما يتألف من هذا التهديد السفلي، فلو توقف هذا التهديد لتوقف أيضًا وجودي، إنه طريقتي في المشاركة في الحياة،وفلو توقف هذا التهديد، سأهجر الحياة بمثل سهولة وطبيعية إغلاق المرء لعينيه”.

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.