fbpx

“عصي الدمع” قصيدة أبي فراس الحمداني الّتي أخرجته من الأسر

0 3٬349

“أراك عصيّ الدّمع شيمتك الصّبر أما للهوى نهيٌ لديك ولا أمر؟”، بهذا البيت يفتتح أبي فراس الحمداني أشهر قصائده الّتي يسكب فيها مكنونات نفس فارسٍ خُذل من أقرب ناسه، وتُرك في غياهب الأسر مجرداً من كلّ شيء إلّا أشواقه.

أبي فراس الحمداني قصّة فارس أسير

لم يتخيلْ الحارث بن سعيد بن حمدان التّغلبي الربعي الملقب بأبي فراس الحمداني، أن ينطلي مكر الوشاة الحاقدين على أمير الدولة الحمدانية سيف الدولة الحمداني ابن عمه وزوج أخته، وهو الّذي رعاه طفلاً بعد وفاة والده، ليتركه شاباً بين أيدي الرّوم في القسطنطينية أسيراً، إذ خوّف الوشاة الأمير من مغبة خروج ابن عمه من الأسر وطمعه في الحكم، وصل الخبر لأبي فراس في محبسه، ما دفعه للقول في القصيدة نفسها:

فَإِن يَكُ ماقالَ الوُشاةُ وَلَم يَكُن           فَقَد يَهدِمُ الإيمانُ ماشَيَّدَ الكُفرُ

وَفَيتُ وَفي بَعضِ الوَفاءِ مَذَلَّةٌ             لِإِنسانَةٍ في الحَيِّ شيمَتُها الغَدرُ

أثّر إهمال سيف الدولة في نفس أبي فراس أيّما تأثير، بعد أن كاتبه مراراً يرجوه الفدوَ من الآسرين، تاركاً في قلبه جرحاً لم يندمل وهو الفارس شديد البأس الذي لم تكن تلك تجربته الأولى في الأسر، إذ سبق له أن أسره الروم من ذي قبل واستطاع حينها الفرار بأن هوت به فرسه من مكان أسره في حصن خرشنة المنيع نحو نهر الفرات، لكنّها المرة الأولى الّتي يُخذل فيها من ابن عمه، وكان قد نظم في مديحه اثني وعشرين قصيدة حين كان في بلاطه أيّام السلم ينافس أعتى شعراء عصره كالمتنبي والفارابي، في زمنٍ كانت فيه حلب عاصمة الدولة الحمدانية حاضرة الشّعر وموئل الشعراء.

 

اشتياق ينازعه الكبرياء

ويبدو أنّ أبو فراس الحمداني قد صاغ ذروة مشاعره تلك في هذه الأبيات:

بَلى أَنا مُشتاقٌ وَعِندِيَ لَوعَةٌ             وَلَكِنَّ مِثلي لايُذاعُ لَهُ سِرُّ

إِذا اللَيلُ أَضواني بَسَطتُ يَدَ الهَوى      وَأَذلَلتُ دَمعاً مِن خَلائِقِهِ الكِبرُ

تَكادُ تُضيءُ النارُ بَينَ جَوانِحي             إِذا هِيَ أَذكَتها الصَبابَةُ وَالفِكرُ

مُعَلِّلَتي بِالوَصلِ وَالمَوتُ دونَهُ             إِذا مِتَّ ظَمآناً فَلا نَزَلَ القَطرُ

 

يعترف أبو فراس الحمداني بلهيب أشواقه رُغم عزّة نفسه، فالفارس المقدام الّذي تولّى إمارة منبج الحدودية، ونازلَ العدا فيها بمعارك عدّة، يقارعُ الصّبابة في ليالي سجنه، يهزمها بسيفِ الكبرياء حيناً فتبقى دموعه حبيسة عينيه، وتهزمه بسهام اللوعة أحايين فيذرف دمعاً عزيزاً.

يحيك صاحب “الروميات” هذه المشاعر بحرفية نساج الحرير، يشبك خيوط الشوق والأنفة معاً لينتج تحفة شعرية عذبة تزكي في قلب من يسمعها نار الحنين ونزعة الكبرياء، ويخال نفسه مكان الشاعر مهيض الجناح بين أيدي الروم بعد أن استبسل ضدهم سابقاً في مواقع كثر، ولعلّ هذا ما استثار حميّة سيف الدولة الحمداني ودفعه لأن يعدّ العدّة لمهاجمة الأعداء، بعد أن تراجع من حلب إثر اقتحامها من قِبل الروم، فانتصر عليهم، ولم يكن أسراهم لدى سيف الدولة بالنذر اليسير، فبادر على الفور لافتداء أسراه وعلى رأسهم ابن عمه أبي فراس الحمداني وكان قد مضى على أسره أربع سنوات.

نهاية الشاعر المحارب أبو فراس الحمداني

لم تكد تمر سنة واحدة على تحرير أبي فراس الحمداني حتّى وافت المنية سيف الدولة، فخلفه ابنه أبو المعالي وهو ابن أخت الشاعر، ولما كان أبو المعالي حدث السن، تولّى غلامه التّركي “فرعويه” الوصاية عليه كالمتعارف عليه في ذلك العصر، وهذا ما لم يرق لأبي فراس الذي أنفق حياته في الدفاع عن حدود الدولة، فقرر الاستيلاء على مدينة حمص، ليشتبك مع جيش فرعويه في بلدة صدد، ويخرَّ صريعاً عن عمر ناهز السادسة والثلاثين، وكانت خاتمة أشعاره أبياتٍ وصلت لابنته يرثي فيها نفسه بالقول:

أبنيتي لا تجزعي .. كلّ الأنام الى ذهاب
أبنيتي صبرا جميلا للجليل من المصاب

نوحي عليّ بحسرةٍ  من خلف سترك و الحجاب
قولي إذا ناديتني … و عيّيتُ عن ردِّ الجواب
زين الشّبابِ أبو فراس لم يُمتَّع بالشباب

بهذه الواقعة اختتمت مسيرة أبي فراس الحمداني، ومن غير المستغرب قول الصاحب بن عباد “بُدئ الشعر بملك وخُتم بملك”، ويعني أبو فراس وامرؤ القيس، فبوفاته خسر الأدب العربي شاعراً فارساً في ذروة عطائه، أضاف إلى واحة الشعر ساقية من الأصالة والحنين ينهل منها كل مشتاق في أي زمان ومكان.

 

 

اقرأ أيضاً: عينا طه حسين الّلتان جعلتاه يُبصر

رواية البؤساء قصة جان فالجان

 

 

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.