fbpx

الـمقامة وأَهمـيتها الجزء الأول

0 590

اُبتُدِعَتِ المقامةُ في القرنِ الرّابعِ الهجريّ، وظهَرَت لتُشكّل صورة عن بعض جوانب الحياة الاجتماعية العربية في عصرها، وهي عمَلٌ أدبِيٌّ سردِيٌّ يُشبِهُ القصّةَ القصيرة.
مثّلت المقامات حلقةَ من حلقات تطوُّر السّرد العربيّ القديم، أو القِصص العربيّة بشكل عام. وكانت أظهَرَ الأنواع السّردية في ذاك القرن.

1. المقامةُ لُغةً

تتبّع بروكلمان تطور معنى ‘مقامة’، في مختلف العصور، وهذا نِتاجُ ما وصل إليه:

أ‌. في العهد الجاهليّ

كانت كلمة ‘مقامة’ في العصر الجاهليّ تعني:

– المجلس أو مُجتمع القبيلة: قال زهير بن أبي سُلمى:
وَفِيهِمْ مَقَامَاتٌ حِسَانٌ وُجُوهُهُمْ وَأَنْدِيَةٌ يَنْتَابُهَا القَوْلُ وَالفِعْلُ

– الجماعةُ من النّاس: قال لبيد بن ربيعة:
وَمَقَامَةٍ غُلب الرِّقابِ كَأنّهُم جِنٌّ لَدى طَرَفِ الحَصيرِ قِيامُ

ب‌. عصر صدر الإسلام

وكانت تعني في عصر صدر الإسلام؛ المجلس الذي يقوم فيه شخصٌ بين يدي الخليفة أو غيره ويتحدّثُ واعظًا. كذلك كانت ‘مقامة’ في هذا العصر وفي العصر الأُمَوّيّ: أحاديثَ زُهديّة أو مُحاضراتٍ تُروى في مجالسِ الخُلفاء. من مثل ذلك ما كتبه ابن قتيبة في كتابه: عيون الأخبار من مقامات.

ت‌. العهد العبّاسي

رُبطت كلمة ‘مقامة’ في هذا العصر بالكدّية والاستجداء بلُغة مُختارة، وبهذا وصلت إلى معناها الاصطلاحيّ الحقيقيّ الذي أوجده بديع الزّمان الهمذانيّ.
والمقامةُ: اسمٌ للمجلس أو الجماعة من النّاس “والمجلس في الغالب تدور فيه أحاديث للمُسامرة، وقد كانت للعرب قبل الإسلام مجالس سَمرٍ يتحدّثون فيها بقصص الجنّ والحيوان ويتحدّثون بالمواعظ والأمثال” ، وسُمّيت الأحدوثة من الكلام: مقامةً كأنّها تُدرَك في مجلسٍ واحدٍ تجتمع فيه الجماعة.
وفي لسان العرب: “المقامُ والمقامةُ: الموضع الذي تُقيم فيه. […] والـمَقامة، بالفتح: المجلس أو الجماعة من النّاس” .
 كانت تُعنى المقامات قبل أن تتخذ شكلها الاصطلاحي “بأحاديث النّصح والإرشاد والوعظ والتقويم الخُلقيّ” . ثم اتخذت معناها الاصطلاحيّ مع البديع الهمذانيّ في العصر العبّاسيّ.

2. المقامةُ اصطلاحًا

تعدّدت تعريفات المقامة، لكنّها اختلفت فقط في تعبيراتها، ودقّة وصفِها.
تُعرفُ المقاماتُ بالمكان الذي تُجرى فيه، وقد تُنسبُ إلى المرويّ عنه.. وفي الغالب، يكون راوي المقامة رجلًا ذا نفسٍ ظريفة، يُحسن رواية الأخبار، كثير الأسفار، مُتفرّغًا للأدب، مُجتهدًا في طلب نفائسه وغُررِه، وتحصيل فوائده ودُرره.
انتقل المعنى اللّغوي السّابق لكلمة ‘مقامة’ إلى السّاحة الاصطلاحيّة فـــ”أصبحت المقامة فيما بعد مصطلحًا أدبيًا تطلّعت على نوعٍ من الكتابة الفنّية على شكل أُقصوصة مُنمّقة في ألفاظها وأسلوبها، وفيها شيء من الحوار، وتعتمد في الغالب على راوٍ واحدٍ وبطل أديب مُتحايل، يُراد بها وصف حالة نفسيّة أو مُفارقة أدبيّة، أو مسألة دينيّة، أو قضيّة علمية.. وتنطوي على لون من ألوان النّقد، أو التّهكّم والسّخرية، أو التّصحيح والتّقويم، أو الثّورة.. ويُعدّ بديع الزّمان أوّل من أعطى كلمة مقامة معناها الاصطلاحيّ بين الأُدباء” . فهي قصة قصيرة، تختزل فكرة أدبيّة أو فلسفية، أو لمحة من دعابة أو نكتة أو خطرة وِجدانيّة . فهي ذاك “الجنس الأدبيّ النثريّ الوحيد الذي يُمثّل وجه الإبداع الراقي في العربيّة بحقٍّ، أو الإبداع المُعترف بأدبِيّتِه أكثر بين أُدباء العربيّة الغابرين على الأقلّ” .
تنبني المقامة في الغالب على عبارات مسجوعة “مُحلّاةٌ بأنواع البديع مُشتملة على كثير من الغريب” .
فهي قصّة “حسنة التّأليف، أنيقةُ التّصنيف، تتضمّن نُكتةً أدبيّة، ومدارُها على رِواية لطيفة مُختلفة تُسند إلى بعض الرّواة، ووقائع شتى تُعزى إلى أحد الأُدباء –والمقصود منها غالبًا جَمعُ دُرَر وغُرر البيان، وشوارد اللُّغة ونوادر الكلام، مَنظوم ومنثور، فضلًا عن ذكر الفرائد البديعية، والرّقائق الأدبية، كالرّسائل المُبتكرة، والمواعظ المُبكية والأضاحيك المُلهية” .

3. أهميةُ المقامة

ليست المقامة حكايةً مُتخيّلة أو خبرًا خُرافيًا، “فقد رأت المقامة النّور في لحظة مُحدّدة، ولها مُؤلّف، ولهذا المُؤلّف سيرةٌ يُمكن الرّجوع إليها […] إضافة إلى أنّ المقامة قد عَرفت منذ البداية، نقلًا مُدوّنًا” ، فالمقامة تُجسّد لنا صورة عن الواقع الذّي عاش فيه كاتِبُها.
للمقامة وظائف ترفيهيّة، تربويّة وتعليميّة، فكان كُتّابُها وأصحابُها يهدفون إلى إبراز براعتهم اللغويّة وتميُّزِهم فيها. فأَشبعت المقامة بذلك حاجات الثقافة العربيّة. وتأتي أهمّيّتها في كونها فنًّا مُخترعًا، “لا يدّعي المُؤلّف فيها الصّدق الذي كان يُكبّل المُؤلّفين قبله، بل هو يستخدم طريقة الخبر القديم استخدامًا مقصودًا، أي أنه يُوظّف وسيلة السّنَدِ في لازمة تتكرّرُ دائمًا ‘حدّثنا عيسى بن هشام، قال…’ لتكون مِفتاحًا سرديًّا لا ينفصل عن جسد النصّ” . فقد حافظت المقامة على أسلوب الخبر في ابتِدائه بالسّند موصولًا إلى الراوي، ولعلّ في هذا إيهامًا بصحّة الخبر.
المقامةُ شبه القصّة القصيرة “ومُهمّةُ القاصّ تنحصر في نقل القارئ إلى حياة القصّة” وهذا ما حاول الهمذانيّ وغيره القيام به، لكن المقامة تظلّ في علاقتِها بالقصّة ناقصةً لأنها لا تحتوي على عُقدة، ويغيب فيها أحيانًا وصفُ الشّخصيّات والأمكنة..

أ‌. قيمة المقامة الأدبية

خلت المقامات من أهمّ ما تمتاز به القصّة؛ وهي العُقدة والشّخصيّات الروائية المُمتازة، وتحليل نفسيّاتِها “فهي بمُجملها؛ حِيلٌ تُفسّر حياة مُتكدٍّ، أُلِّفت على صورة واحدة، وفيها انصراف عن الموضوع إلى الأسلوب، وعرْض للموعظة أو النُّكتة المُستملحة والألغاز اللّغوية والنّحوية في لغة جزلة كثيرة الغريب، وفي أُسلوبٍ مُسجّعٍ” .
يُستفاد من المقامات التمرّن على الإنشاء والوقوف على مذاهب النّظم والنّثر، كما في المقامات حكمٌ وتجاربُ جمّة. فهي “ميدانٌ لعرض النُّكتة وإظهار البراعة في التّخلّص من مآزق الحياة عن طرق مُلتوية، وبنوع خاص لإظهار المقدرة اللّغويّة والأدبيّة” . كما فيها بعض التعابير الغريبة الجائزة في اللّغة، وبعض الكلمات قليلة الاستعمال.

ب‌. قيمة المقامة التّاريخيّة

أبانت المقامات عن التلصّص والكُدْية التي فشت في ذاك العصر وشاعت، وقد انتقد الكثيرون هذا العصر؛ يقول أبو الفتح الاسكندري:
“هَذَا الزَّمَانُ مَشُومُ كَمَا تَرَاهُ غَشُومُ
الحُمْقُ فيهِ مَلِيــــحٌ وَالعَقْلُ عَيْبٌ وَلُومُ
وَالمَالُ طَيْفٌ وَلَكنْ حَوْلَ اللِّئَامِ يَحُومُ”
إضافةً إلى ما سبق؛ تُصوّر المقامة المُجتمع “في فقره وبُؤسه وحِرمانه من الحُرّيّة والعيش العزيز الكريم، نجد موضوعات تأخذ طابعًا ثقافيًا: […] (فـــ) منها دينيّة وعظية في النّصح والإرشاد واتباع الخُلق القويم والطريق المُستقيم […] ومنها وصفيّة تتناول العادات والطّبائع والمآكل والمشارب والحيوانات والمُدُن” .

يُتبع..

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.