fbpx

الجريمة والعقاب .. ملحمة الطغيان وعذاب الضمير عند القاتل راسكولينكوف (مراجعة)

0 60

مفهوم الجريمة عند راسكولينكوف

 

هل كانت حياة أحدكم مثالية تنضح بالبهجة؟، هل كانت مليئة بتلك اللحظات والذكريات التي يشعر المرء حين تذكرها أنّه عاش حياة لا بأس بها من السّعادة، أم كانت  مملة وراكدة كأيام السّجن، تخبطات تتبعها تخبطات، وآمال تخر مغشياً عليها في مراحل التكوين المختلفة، أم أوصلتك الحياة بسبب الراحة والتخمة الزائدة أو الشقاء المستمر إلى فكرة بائسة ومتهورة، واقتنعت حينها أنّ خلاصة فهمك للحياة أوصلك إلى هذه النقطة، ثم اتبعت فكرتك ونفذتها بإيمان بالغ، وما إن قمت بتنفيذها إذ بك تنزلق وتتدحرج نحو الهاوية لتعيش عذابات الوجود والندم الأبدي جراء فعلتك، وتكتشف أن إيمانك هذا وهم أنت صدقته.

 

هذا ما حصل مع راسكولينكوف بطل رواية الجريمة والعقاب للكاتب الروسي فيودور دوستويفسكي الذي تعتبر من أعظم الآثار في الأدب الروسي والعالمي، كان راسكولينكوف الملقب ب “روديون” طالباً جامعياً يعيش في شقة صغيرة في سانت بطرسبرغ، ترك دراسته للمحاماة بسبب فقره الشديد، فلم يكن يملك المال لدفع رسوم التعليم،  يقضى أغلب أوقاته في القراءة والتأمل، ومع نهاية كل يوم من أيامه يعود إلى مرقده مستنزف القوى، مستهلك التركيز والعافية، فهو يريد بقوة أن يلتحق بالدراسة، ولكنّ قوةً أكبر منه لا تفتئ تمنعه من التقدم خطوة واحدة، إنها قوة القدر!

 

تلك القوّة التي لطالما أودت بحياة عشاقٍ لم يستطيعوا الوصل، وقتلت همماً داخل نفوس عظيمة لا تملك بعض أسباب الوصول.

 

كان روديون يعيش حياته يحاول الموازنة بين إكمال التعليم  ومهمته الأكبر التي تكمن في ألّا يخيب أمل أخته ووالدته اللاتي تعبن في الاعتناء به و إيصاله إلى هذه المرحلة الدراسية، بالإضافة إلى ذلك فهو يحاول الموازنة بين دراسته الفلسفية والتأملية للحياة وسعيه المستمر للتمرد على المسلمات والسخافات المجتمعية، وبين قوة القدر التي تفرض عليه أن يمشي وفق قواعد مجتمعية محددة، وتحبطه بقسوة عند كل محاولة تمرد، كل ذلك يؤكد لنا  أن روديون لم يكن يعيش الحياة بالفعل بل كان “يحاول” أن يعيش حياته متشبثاً بكل الحبال التي كانت تجره نحو الجرف، حياة شخص يسير على جسر كالشعرة، أو بالأحرى يحاول السير متحدياً إمكانية السقوط شبه الحتمية.

 

في محيط يشوبه الشّك المطلق في وجود الخير وعدمية روديون الطافحة، يسأل روديون نفسه سؤالاً: لا بد أن هناك إختلافاً واسعاً بين البشر، فليس من المعقول أن نكون جميعاً سواسية، فالناس ينقسمون إلى نوعين، النوع الأول هم الاستثنائيون أمثال نابوليون بونابارت والنبي محمد، وغيرهم من القادة الذين يتمتعون بذكاء فائق والقدرة على التأثير وسن القوانين الجديدة عبر تدمير كل التشريعات السابقة، وهنالك في الطرف الآخر الناس العاديون الذين يعيشون حياة بسيطة و سعيدة و يفتقرون إلى الذكاء الفائق مما يجعلهم تابعين لذلك النوع الأول”

 

وذلك يفتح لي باب التساؤل عن قدري، على أي النوعين ولدت وفي أي الفريقين سأمضي حياتي؟، هل يمكن أن أكون أنا روديون في واقعي، أحد أولئك الاستثنائيين، هل يمكنني أن أضع حداً لكل ما أراه مظلماً حولي؟، إن ما يجعل أناس أمثالي يصلون إلى هذه المرحلة اليائسة من التفكير هو رغبتهم الصارخة لوضع حد للتعاسة والمعاناة، ولكن هل ثمة جدوى من أن أكون استثنائياً  وينتهي بي الحال ونفسي تقتلني ندماً وضميري يضيق الخناق على رقبتي؟  ما فائدة أن أكون استثنائياً وينتهي بي الحال وأنا نسخة من روديون في نهاية قصته..شخص تخنقه الحياة ويعذبه الضمير، هل هناك ضير في المحاولة؟ وماذا ستكلفني؟

يا لها من أسئلة أخشى إجاباتها؟!

 

لنكمل القصة..بل لنكمل سرد المأساة البشرية في أبهى صورها.

في المبنى نفسه الذي يقطن فيه روديون كانت هنالك عجوز مرابية تسمى إيفانوفنا تعيش مع أختها وتعمل على رهن الأغراض الثمينة للناس مقابل مبلغ يترتب عليه فائدة مع الزمن، والمريب أن هذه العجوز كانت بمثابة فريسة سهلة أمام أعين روديون الذي أمضى أيامه السابقة يدرس و يتربص بخطوات حذرة تحركات العجوز إيفانوفنا، إلى أن أخذ القرار!

خلف أبواب منزل راسكولينكوف يقف البطل المضطرب، ماسكاً للفأس، عيناه تملؤها الشرور وبدنه يرتجف رعباً ورهبة، وما إن دخلت العجوز إلى شقتها أخذ روديون نفساً من الشجاعة، وقد عزم أمره على تحقيق عدالته الخاصة، وما إن لبثت واستقرت العجوز في منزلها دخل عليها روديون، رفع الفأس و شق رأسها إلى نصفين.

 

لحظات قليلة من الإنتصار الواهم  وفرحة مؤقتة لا يدري ما مصدرها ولا يدرك ما ينتظره بعدها من عواقب، فر روديون من مكان جريمته وقرر أن يمضي باقي أيامه كأن شيئا لم يكن، وماهي إلا أيام حتى أدرك راسكولينكوف بأنه ملاحق، ليس من قبل الشرطة فقط، بل من قبل كل شيء له ضمير حي، تولى رجل بارع من قسم الجريمة ذو بصيرة وفطنة عالية يدعى المفتش بوريانكوف مهمة الإيقاع بروديون، وأخذ بدوره يحاول الكشف عن ملابسات الجريمة والوصول إلى المجرم، كانت محاولات بوريانكوف المستمرة في التحقيق مع روديون تضع روديون أمام ضغط عصبي كبير يفتت حواسه ويجعله شارداً على الدوام بسبب السر الذي يخفيه في داخله.

 

لم يتجرأ بريانكوف على إتهام روديون بالجريمة ولم يتشجع روديون بالاعتراف عن فعلته ولكن بريانكوف الذكي وضع روديون أمام حقيقة صعبة القبول وفي حيرة قاتلة، حيث قال له: “نعلم أنك المجرم يا روديون كل الأدلة تدل عليك وما عليك سوى الإعتراف”

 

  راسكولينكوف وعذاب الضمير

 

علم راسكولينكوف بأنه محاصر ولكنه لا يزال في ثقة تامة بعبقريته و جنونه في الوقت نفسه، فمن وجد في نفسه الشجاعة في قتل تلك العجوز لا شك أنه يستطيع اللذوذ بالفرار أو التغلب على دهاء المفتش بريانكوف، وأثناء إلتهاء روديون بعظمته أصابه شك مفاجئ في العمل الشنيع الذي قام بارتكابه، شك عظيم أمال عقله و جسده نحو الأسفل، ودق مسماراً في ظهر عبقريته وجنونه، مصيبة كبيرة أصابت روديون، تلك المصيبة كانت “الشعور بالندم والإحساس بالذنب”، كان مستوى الإدراك لدى روديون كاف بأن يوقظ ضميره من سُباته، أصابه مرض شديد و ضعف جسده، ولم يكن عقله يرحمه كما لم يكف ضميره عن إحداث الضربات القاسية في قلبه، لم تكن فكرة إرتكابه لجريمة القتل هي ما تؤرق روديون فهنالك الكثير ممن يقبعون بالسجن الآن نتيجة ردات أفعالهم أثناء لحظة غضب، كانت جريمة روديون الكبرى أنه قد شرع لنفسه القتل و بهذا فهو قد تجاوز كونه إنسانًا  وأصبح في محل الله ومحل الخالق، وأصبحت تحدثه نفسه، كيف يمكن لي أن أشعر بالذنب، كيف أرى نفسي أمام عجز ذهني كبير يدعوني للاعتراف ولا أستطيع تخطي فعلتي، إذا لا بد أنني بشر عادي لست بإله ولا أنا بإستثنائي ولست رجلاً خارقاً أيضاً ما الذي جنيته أنا على نفسي؟ يا للخسارة

يا للخسارة العظيمة!

 

صونيا.. نبذة عن معاناة البشرية

 

أثناء مرض روديون تعرف على فتاة تدعى صونيا سيمونوفنا، كانت صونيا فتاة فقيرة وذكية، وتحت وطأة الفقر والحاجة الشديدة اضطرت للعمل في الدعارة للحصول على المال اللازم، حتى تعيل نفسها وأهلها، فكان توجهها للدعارة شئ يقهرها ومعاناة تدافعها في كل لحظة في حياتها، وكان روديون في وقتها قد انخمدت فيه الشرور وانبثق فيه الخير ورأى بأنه لا فرار من هذا العذاب سوى الاعتراف بالذنب، وبسبب الانحلال الديني والفكري عند روديون فإنه رأى في صونيا بأنها ما تبقى من الإيمان المسيحي لديه وعليه فوراً الاعتراف لها، وجسد دوستويفسكي معاناة البشرية كلها في صونيا بسبب ما تعانيه من فقر وشقاء وقهر وقلة حيلة، وذلك عندما سجد أمامها راسكولينكوف في مشهد غريب يدفع للتأمل، استغربت صونيا من هذا الفعل وارتبكت متسائلة: أتسجد أمامي يا روديون؟

 

فقال: “لا أنا لا أسجد أمامك بل أمام معاناة البشرية كلها “.

 

تقوم صونيا بإعطائه صليبها وتطلب منه الذهاب وتسليم نفسه إلى العدالة ولكي يتطهر كلياً تطلب منه الذّهاب إلى أحد ميادين بطرسبرغ، وهناك يسلم على الشعب ويقبل الأرض ويقول بصوت عالي أمام الملأ ” أنا قاتل “.

 

يعبر دوستويفسكي على لسان شخصياته عن الدوافع الإنسانية التي تجعل من صاحبها الإنسان مخلوق قوي.. متكبر..جرئ، ثم يعود مهزوماً حين يتأمل أفعاله وحين ينظر إلى ما جنت يداه بعين الضمير العادلة، يسمح دوستويفسكي لشخصياته بالاندفاع التام وراء رغباتهم مهما كانت قبيحة أو جميلة وتحمل عواقب أفعالهم، كل ذلك جعل من الكاتب الروسي أحد أعظم أعمدة الأدب الروسي والعالمي، ونفهم من “الجريمة و العقاب” أن الأدب ليس مجرد قصص تقرأ للتسلية  بل هي مرآة للإنسانية يرى الناظر المتأمل فيها نفسه في صورة شخصية أخرى، لا تشبهه في الإسم ولا الشكل ولا محل الميلاد ولا اللغة، ولكنها تشبهه كثيراً من الداخل.

 

اقرأ أيضاً كيف نظر كافكا للمأزق الوجودي للإنسان من خلال أبطال رواياته

 

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.